قبول عمل المبتدع في الميزان
أنت لا تدري أي عملك يقبل، رب عمل جودته واعتنيت به لا يساوي صفراً عند الله، ورب عمل فعلته ولم تلق له بالاً هو الذي ينجيك، لذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تحقرن من المعروف شيئاً، ولو أن تفرغ من دلوك في دلو أخيك) والماء سبيل،
لكن لعل إفراغك من دلوك في دلو أخيك خير من قيام الليل طيلة عمرك، وهذا من أدل الدلائل على أن العقول لا تستقل بمعرفة ما يحبه الله ويرضاه ويكرهه ويسخطه، إنما نعرف ذلك بالوحي. وأضرب لكم بعض الأمثال التي هي خروج على القاعدة: لما خاض بعض المسلمين في حديث الإفك وتكلموا، مجرد نقل كلام، لم يفتروا القصة من عند أنفسهم،
رمى عبد الله بن أبي ابن سلول عائشة رضي الله عنها بالفاحشة مع صفوان بن المعطل السلمي . إذاً: من المفتري؟ الذي تولى كبره هو رأس النفاق عبد الله بن أبي ، فبعض المسلمين نقل هذا الكلام، فقال بعضهم لبعض: (أولم تعلموا أن عائشة رميت بصفوان بن المعطل السلمي ؟) فقال الله عز وجل لهم: وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ [النور:15]، مجرد كلام ينقل لكنه عند الله عظيم.
وفي صحيح البخاري ومسلم : (رب كلمة لا يلقي لها الرجل بالاً تهوي به في النار سبعين خريفاً) (لا يلقي لها بالاً) أي: ما ظن أن تبلغ هذا المبلغ، كلمة خرجت منه فلتة، لم يلق لها بالاً، ولم يعرف خطورة الكلمة (تهوي به في النار سبعين خريفاً). وعلى المقابل: قال النبي صلى الله عليه وآله سلم
-في الحديث المتفق عليه أيضاً-: (دخلت امرأة بغي الجنة في كلب سقته) امرأة بغي تتاجر بعرضها طيلة عمرها، آثام بعضها آخذ برقاب بعض، ظلمات بعضها فوق بعض، أيسقط هذا الذنب العظيم المتكرر سقيا كلب، هذا عمل لا يلقي المرء له بالاً، لكن الله غفر ذنوبها جميعاً به. إذاً: لا يستقل العبد في إدراك مرام التشريع،
إنما العبرة بالعبادة والاتباع والإخلاص، وليس الكثرة، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم لهؤلاء الثلاثة: (أما إني أتقاكم لله) أنا أصلي مثلك، لكن ما بين صلاتنا كما بين السماء والأرض، رجل يتصدق وآخر يتصدق، هذا تقبل صدقته وهذا ترد عليه، والفعل واحد، لماذا قبل هذا ورد ذاك..؟ بسبب الإخلاص من لي بمثل سيرك المدلل تمشي رويداً وتجي في الأول ماشٍ على مهله ويكون الأول، هذا بسبب الإخلاص، فرب عمل يسير يكون أعظم عند الله عز وجل في الميزان.
موقف النبي عليه الصلاة والسلام من الإحداث في الدين
جاء في صحيح البخاري من حديث أبي جحيفة قال: (آخى رسول الله صلى الله عليه وسلم بين سلمان وأبي الدرداء، فجاء سلمان يوماً يزور أخاه، فرأى أم الدرداء متبذلة -أي: بثياب المهنة- فقال لها: مالي أراك متبذلة؟ قالت: أخوك أبو الدرداء لا حاجة له في الدنيا)
لا ينظر إلى زوجه، والزوج إذا كره النظر إلى زوجه أهملت الزوجة نفسها وأضاعتها، وليس هذا من فقه الزوجة، إذا أهمل الرجل النظر إلى المرأة فلا يجوز لها أن تهمل زينتها، فإن الاستمرار في الزينة يجعل الرجل يرجع إلى زوجه، كما روى النسائي في سننه: (أن امرأة قالت للنبي صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله! إن المرأة إذا تركت الزينة ثقلت، وكره زوجها النظر إليها).
فهي امرأة لا يطلبها زوجها، ولا ينظر إليها، ولا يعيرها التفاتاً، فهي بثياب المهنة دائماً (مالي أراك متبذلة؟ قالت: أخوك أبو الدرداء لا حاجة له في الدنيا. فجلس، وجاء أبو الدرداء فرحب بأخيه، ثم أمر بإعداد طعام، فقرب الطعام، قال له سلمان : كل. قال: إني صائم.
-وفي غير البخاري قال: والله لا أطعمه إلا إذا أكلت- قال: ما أنا بآكل حتى تأكل. فأكل، فلما جن الليل أراد أبو الدرداء أن يقوم ويصلي، فقال له سلمان : اجلس. فكره أبو الدرداء أن يخالفه؛ فنام حتى مضى شطر الليل، فقاما فصليا جميعاً، فلما أصبحا قال له سلمان : إن لنفسك عليك حقاً، ولبدنك عليك حقاً، ولأهلك عليك حقاً، ولضيفك عليك حقاً، فآت كل ذي حق حقه، فلما أصبحا أتيا النبي عليه الصلاة والسلام، فقال أبو الدرداء للنبي عليه الصلاة والسلام مقالة سلمان ، فقال عليه الصلاة والسلام: صدق سلمان ) وفي بعض الروايات: (لقد أشبع سلمان علماً)،
وفي رواية أخرى: (لقد أوتي سلمان فقهاً). هذه عبادات مأذون فيها، ومع ذلك كره الزيادة فيها. وجاء في الصحيحين من حديث أبي العباس الشاعر عن عبد الله بن عمرو بن العاص في قصة صيامه وقيامه -القصة المعروفة- قال النبي عليه الصلاة والسلام لعبد الله بن عمرو : (أولم أخبر أنك تقوم الليل وتصوم النهار. قال: أجل يا رسول الله، إني لأفعل ذلك. قال له: لا تفعل -وهذا ليس صداً عن العبادة، لكنه نظر إلى ما يئول إليه الأمر- فإنك إن فعلت هجمت عينك، ونفهت نفسك) (هجمت عينك) أي: غارت، ودخلت في المحاجر؛ بسبب كثرة السهر، (ونفهت نفسك)
أي: ضعفت وذهب جدك، فنهاه عن الوصال والمواصلة. كان عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه رجلاً فتياً آنذاك، فقبل الجد في العبادة، لكنه ندم في آخر عمره، فكان يقول: يا ليتني قبلت رخصة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا في المأذون فيه. وأيضاً لما كان النبي صلى الله عليه وسلم في مزدلفة قال لابن عباس : (القط لي مثل حصى الخذف، وإياكم والغلو في الدين!) الغلو: أن تحضر حجراً كبيراً وتقول في نفسك: هل ممكن أن أرمي الشيطان بحصوة؟! الشيطان لا يكفيه إلا حجراً كبيراً أقذفه بها،
فنهى عن الغلو حتى في حجم الحجر؛ لأن الغلو يؤدي في النهاية إلى احتقار الشريعة، واعتقاد أن ما أمر الله عز وجل به لا يوصل العبد إلى مرضاة الله، فيخرج المرء من الشريعة في آخر الأمر، فنهى عن كل غلو يفضي إلى ذلك. وهناك من يضرب بهم المثل في هذا الباب وهم الخوارج، قال عليه الصلاة والسلام: (يحقر أحدكم صلاته إلى صلاتهم، وقيامه إلى قيامهم، يقرءون القرآن لا يجاوز حناجرهم، يخرجون من الدين كما يخرج السهم من الرمية).
فرجل مصل ومزكٍ وقارئ قرآن، وهذا أعلى ما يحصله الإنسان، ومع ذلك يخرجون من الدين كما يخرج السهم من الرمية، ما نفعتهم صلاتهم ولا صيامهم ولا قراءتهم للقرآن، فاعتبروا بهذا. المأذون فيه نهاك عن الزيادة فيه، أيأذن لك أن تخترع شيئاً لم يشرعه الله ورسوله؟! إن هذا أشد في المقت، فالمبتدع مضاد لله عز وجل في حكمه، منازع له في حق التشريع، إذ إنه شرع شيئاً لم يأذن به الله ورسوله، وقد ذم الله عز وجل البدع وأهلها، والمعاصي وأهلها، لكن البدع تدخل دخولاً أولياً في المناهي؛ لأن أعظم المناهي هي البدع. ......