أما الدعاء لختم القرآن في صلاة القيام في رمضان قبل الركوع فقد استحبه طائفة من الفقهاء وهو عمل أهل مكة اشتهر عنهم وأخذ به الإمام أحمد ومتأخري المذاهب الثلاثة ويغلب على الظن أنهم تلقوا ذلك عن الصحابة والذي يظهر أنه لا بأس بعمله لمناسبة المحل بعد ختم القرآن ولأنه يجوز الدعاء في الصلاة كدعاء الوتر وهذا من جنسه ولأنه يشرع للمصلي السؤال والاستعاذة عند ذكر ما يقتضي ذلك من الآيات كما ثبت في السنة ولأن أبا بكر رضي الله عنه لما أنابه النبي صلى الله عليه وسلم بالإمامة لمرضه ثم دخل في الصلاة فتأخر أبو بكر وتقدم النبي رفع يديه ودعا وأقره النبي صلى الله عليه وسلم مما يدل على جواز الدعاء العارض أثناء الصلاة لأنه ذكر مشروع من جنس أذكار الصلاة ولأن الصحابة رضي الله عنهم توسعوا في دعاء القنوت وزادوا عليه فأدخلوا فيها الصلاة وغيره مما يدل على أن الأمر واسع في هذا الباب. والحاصل أن الإمام إذا كان يرى مشروعية ذلك ويقتدي بقول عالم فينبغي متابعته وعدم مخالفته أو الإنكار عليه كما كان كثير من أئمة السلف من الفقهاء والمحدثين لا ينكرون هذه المسائل ويرون أن الخلاف سائغ لا يقتضي الإنكار والتدابر وترك الاجتماع على القيام لأجل ذلك وهو أدب وفقه يعزب عن بعض الصالحين اليوم.
والصحيح أنه ليس هناك دعاء خاص لختمة القرآن ينبغي التزامه في جميع الأحوال لأنه لم يرد عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن أصحابه شيء مؤقت وما ينقل عن شيخ الإسلام ابن تيمية من دعاء الختمة مطعون فيه أنكره العلماء. فيدعو الإنسان بما تيسر له من الدعاء ويختار الأدعية الجامعة والمناسبة لفضل القرآن ومنزلته والثناء على الله المتكلم به ونحو ذلك والأمر في هذا الباب واسع لكن لا ينبغي له التزام ألفاظ وعبارات معينة في دعاء الختمة واعتقاد نسبتها إلى الشرع والمحافظة عليها كالأذكار الشرعية الراتبة.
وقد كان الصحابة والسلف الصالح رضوان الله عليهم يكثرون من ختم القرآن آناء الليل وأطراف النهار ولهم في ذلك أحوال عجيبة وإن كانوا في هذا الباب على مراتب منهم المقل ومنهم المستكثر لكن يجمعهم العناية بتلاوة القرآن وامتلاء صدورهم بتعظيم القرآن وعلو منزلته حتى كان الفقيه الناسك عبد الله بن مسعود رضي الله عنه يترك صوم النفل لأنه يشغله عن تلاوة القرآن وهذا من الفقه الدقيق الذي لا يوفق إليه إلا من أوتي الحكمة ورزق البصيرة في الدين. وما عليه السلف الصالح من التنسك والاجتهاد مخالف لما عليه كثير من الناس في هذا الزمن من هجر القرآن وجفائه والاعتياض عنه بالصحف والمجلات والروايات حتى صار يأتي على الرجل سنون كثيرة وهو لم يختم القرآن ولا مرة وكثير من الناس لا يختم إلا في رمضان والله المستعان. ولا يليق بالمنتسبين للعلم والدعوة أن يزهدوا في تلاوة القرآن وختمه ويقصروا في هذا الباب العظيم الذي يعد نور وهداية وزكاة وفرقان لطريقهم وسبيلهم ولا يقبل لهم عذر في هذا التفريط ومن كان زاهدا في القرآن والسنة كان أمره في سفال ودعوته في ريبة.
ويستحب للإمام أن يعتني بختم القرآن في صلاة التراويح في رمضان ويحرص على ذلك إن تيسر له لأن رمضان شهر القرآن وقد ثبت في البخاري: (أن جبريل كان يعرض على النبي صلى الله عليه وسلم القرآن كل عام مرة فعرض عليه مرتين في العام الذي قبض فيه). فينبغي أن يسمعهم جميع القرآن يحرك قلوبهم ويبصرهم في الشرع لا سيما وإن كثيرا من الناس هاجرا لكتاب الله مقصرا في معرفة أحكام التلاوة لا يعرف القرآن إلا في هذا الشهر والله المستعان.
ويشترط لصحة الختمة اتصال القراءة في الحكم بأن يقصد القارئ حال قراءته الختمة وبناء قراءته على القراءة السابقة سواء كانت القراءة داخل الصلاة أو خارجها أو من المصحف أو عن ظهر قلب أما إذا قرأ سورة منفردة أو كررها للرقية أو التدبر أو تعلم التجويد أو الحفظ فلا تدخل قراءته هذه في الختمة ولا تعتبر منها كمن كرر سورة الإخلاص لنيل ثوابها الخاص أو قرأ سورة الكهف يوم الجمعة ونحو ذلك. ويجوز أن تكون له ختمتان في الليل والنهار لأن باب التطوع واسع لكن الأولى أن لا يشرع في ختمة إلا بعد الفراغ من الختمة الأولى.
ويستحب للمسلم الحرص على الختمة في الأزمان الفاضلة والأماكن الفاضلة واغتنام مواسم الخيرات بذلك لأن العمل يتفاضل وتلاوة القرآن من أجل الأعمال وقد كان السلف يحرصون على ذلك إذا نزلوا مكة والمدينة.
والتحقيق أن ما يسمى بالختمة الجماعية بأن يجتمع قوم كل واحد يقرأ جزءا من القرآن في نفس الوقت أو متعاقبين إلى أن ينهوا القرآن ليس ذلك داخلا في حكم الختمة الواردة في الشرع لأن التلاوة عبادة متصلة الأجزاء يشترط أن تصدر من مكلف معين لا من أكثر من واحد كالأذان والإقامة وغيرها من العبادات القولية. فلا يشرع هذا العمل لأنه مخالف للسنة إلا إذا كان على سبيل التعليم والمذاكرة لا قصد ثواب الختمة.
المصدر