الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد،
فمن القواعدِ الشرعية مراعاةُ المصالح والمفاسد فيما يُقدِم عليه الأفرادُ والجماعات من التصرفات؛ لأن دين الله مصلحة كله، ولكن مراعاة المصالح والمفاسد من الأبواب التي تحتاج إلى علم وبصيرة بالشرع من جهة، وبالواقع من جهة أخرى، لاسيما في المسائل التي لِهَوى النفوس فيها مدخل كبير؛ وإلا فقد جاء الجد بن قيس إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- محاولا امتطاء تلك القاعدة ليبرر جبنه وتخاذله عن الجهاد في غزوة تبوك قائلا: لقد علمت الأنصار من أشدهم حبا للنساء، وإني أخشى إن رأيت نساء بني الأصفر أن لا أصبر عليهن فأنزل الله- تعالى-: (وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلا تَفْتِنِّي أَلا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا)(التوبة:49).
لأن عدم صبره عن النساء -إن كان صادقا فيما يقول- راجع إلى تقصيره هو في علاج نفسه، فلا ينبغي أن يكون الخطأ تبريرا لخطأ آخر؛ بل الأولى بالمؤمن الذي انزلق مرة ثم وجد أن هذا سوف يجره إلى مزيد من السقوط في الهاوية أن يسارع بالتصحيح قبل أن يـُختم على قلبه كما قال -تعالى-: (فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ)(النور:63).
وما أروع موقف كعب بن مالك -رضي الله عنه- في هذه الغزوة الذي ظفر منه الشيطان بتكاسل وتسويف قعد به عن إدراك الغزو مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، ثم أراد الشيطان أن يجره إلى الكذب على الله ورسوله -صلى الله عليه وسلم-، فصمد للفتنة، وقرر تصحيح مساره، ولم يستمر في السقوط وأقر بذنبه، واعترف حتى تاب الله عليه، وحتى أصبحت قصة توبته مضرب المثل في التوبة الصادقة عبر الأجيال.
إذن فلا تؤثر في ميزان المصالح والمفاسد المفاسد التي يستطيع المرء دفعها عن نفسه، ولا يدخل فيها الأمور التي كلف الله المؤمنين بتحملها من تحمل الأذى في النفس والمال، لاسيما إذا كان في سبيل نصرة الدين طالما رجا المسلمون النصر في النهاية (إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ)(التوبة:111)، (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الأَمْوَالِ وَالأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ)(البقرة:155).
وكذلك ينبغي في الموازنة بين المصالح والمفاسد معرفة البدائل الواقعية المطروحة، مع استفراغ الوسع في محاولة استقراء الوضع، وما يغلب على الظن من فعل الأعداء.
وعندما غدرت عضل والقارة بأصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- في فاجعة الرجيع، وطالبوا منهم الاستسلام على ألا يقتلوهم؛ رفض معظمهم ذلك فقاتلوا حتى قتلوا، وقبل منهم من قبل ثم غدر بهم المشركون وقتلوهم؛ فقنت النبي -صلى الله عليه وسلم- عليهم شهرا.
والحاصل أن القاعدة من حيث الأصل مقررة، ولكنها من حيث التطبيق تحتاج إلى بصيرة عالية بالشرع والواقع، والأمر فيها متروك لتقدير من في الموقف، كما حدث ذلك أيضا في غزوة مؤتة فرأى زيد بن حارثة ومن بعده جعفر بن أبي طالب ومن بعدهما عبد الله بن رواحة -رضي الله عنهم- أن المسلمين قادرون على الثبات وإحداث نكاية في العدو؛ فكان لهم ذلك -بفضل الله-، ثم تولى القيادة خالد بن الوليد -رضي الله عنه- فقرر مواصلة القتال حتى يتمكن من عمل انسحاب تكتيكي من المعركة، فعد النبي -صلى الله عليه وسلم- ذلك نصرا، فقال: (حَتَّى أَخَذَ سَيْفٌ مِنْ سُيُوفِ اللَّهِ حَتَّى فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ) رواه البخاري.
وفي الحرب اليهودية الشرسة على غزة رأى عامة العلمانيين وبعض المنتسبين للعمل الإسلامي أن حركة حماس هي التي استفزت العدو، وحيث إن الذب عن عرض المجاهدين هو نوع من نصرتهم فكان ولابد من القيام بذلك.
فأما العلمانيون فهم -واللهِ- خلفاء هذا الذي قال: (ائْذَنْ لِي وَلا تَفْتِنِّي) مع الفارق؛ فهم لا يطيقون ترك نساء بني الأصفر في الفضائيات من المغنيات والراقصات، ويحزنهم مجرد أن تسوءهم القنوات الإخبارية بعرض صور الحرب والدمار، ويحزنهم أن تخجل بعض "جواري" الغناء في العصر الحديث فيغلقن بعض حفلاتهم الماجنة إلى أن يتوقف شلال الدم؛ لذا تجدهم في شوق إلى إيقاف شلال الدم، ولو كان البديل أن يستمر القتلُ البطيء المنظم لكل من تسوِّل له نفسه أن يقف في وجه الأعداء.
وأما بعض المنتسبين للعمل الإسلامي الذين يرون ذلك، فمنهم من انطلق من رؤية تخذيلية لكل صور الصحوة الإسلامية حتى طال ذلك عندهم معظمَ الصور الدعوية السلمية متذرعين أيضا بمفاسد متوهمة لها، والكلام مع هؤلاء يضيق هذا المقام عنه.
وهذا لا يمنع أن الإعلام استطاع أن ينقل صورة تأثرت بها بعض قيادات العمل الإسلامي ورموزه العلمية والدعوية، وبعض الخطباء الذين لهم قبول عند العامة، فألقوا باللائمة على حماس مع تأكيدهم على وجوب نصرتها وتمني انتصارها وإن أخطأت التقدير، وإن كان الأجود هو ترك التقدير لهم على الأقل طالما أن الحرب قد بدأت بالفعل، ولأن جهاز المجاهدين الإعلامي مشغول بالحرب الإعلامية مع اليهود، وليس لديه الوقت الكافي لكي يقدم إلى إخوانه في العالم الإسلامي الموقف كاملا على أرض الواقع حتى يقتنعوا بصواب قراره.
ونحن -بحمد الله- ساهمنا بهذا القدر اليسير في الذب عن أعراض المجاهدين، ومن هذا الحوار الذي أجراه مركز "بيت المقدس للدراسات التوثيقية" مع الشيخ "ياسر برهامي" المشرف العام على موقع: "صوت السلف" وكان فيه هذا السؤال:
شيخنا الفاضل من ناحية فقهية حال استفزاز العدو وأنت لست كفؤاً له في العدة العسكرية؟ هل هذا جائز وهل هذا من الفقه المحمود؟
وكانت الإجابة:
لاشك أنه يلزم المسلمين أن يحسبوا قوة عدوهم، وقوة أنفسهم؛ لأن الله -عز وجل- قال: (الآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا... )(الأنفال:66)، فهذا تقدير لقوة المسلمين وقوة العدو، والمسلمون إذا علموا أنهم مغلوبون مقتولون في معركة دون إحداث نكاية لم يجز لهم أن يقاتلوا، ولكن إذا كان هناك إحداث نكاية فالأمر على الاستحباب في الانصراف أو في الإقدام.
وأما إذا كان الأمر يـُفرض علينا، يهجم العدو علينا فهذا جهاد دفع، ولا شك أننا لا نستفز الكفار إن كنا لا نقدر على مواجهته، كما قال النبي -عليه الصلاة والسلام- لحذيفة حين أمره أن يأتي بخبر القوم في غزوة الأحزاب كما رواه مسلم في الصحيح قال: (لا تَذْعَرْهم)، مع أنه كان يقدر على قتل أبي سفيان، ولم يفعل؛ لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال له: (لا تَذْعَرْهم)، فنحن نقول ذلك، ولكن هل كان العدو فعلاً ينتظر لاستفزازٍ؟!
وإنما كان هذا فيما يبدو لنا نوع من محاولة تحصيل بعض المكاسب خلال مثل هذه العمليات، وهذا الأمر مرده في النهاية إلى القائمين على الجهاد؛ هم الذين يقدرون المصالح، نحن نجلس بعيداً ثم نقول لهم: استفززتم العدو!!
هم أدرى بواقعهم، وننصحهم ونقول لهم: إن القواعد الكلية تقول إنك لابد أن تقدر قوة نفسك وقوة العدو، وعند ذلك تخوض المعركة أم لا.
ونحن نسأل اللهَ أن يسددهم، وأن يوفقهم، وأن يرشدهم لما فيه الصواب، لكن مسألة أنهم هم الذين استفزوا العدو.. الواقع يؤكد أن العدو هو الذي يستفز، وانظر كم من الآلاف من الأسرى في سجون العدو، فكيف ننكر عليهم رد الفعل وهم قادرون على الرد؟! وهم أدرى بذلك، وإذا رأوا المصلحة في التهدئة ولو ببعض التنازل فلهم أن يفعلوا ذلك إذا كانوا يرون أن المصلحة تقتضي ذلك في هذا الوقت"أ.هـ.