لم أر إجماعاً على حدثٍ ما مثلما رأيت هذا الإجماع حول حادث قذف الصحفي العراقي منتظر الزيدي للرئيس الأمريكي جورح بوش بنعاله يوم 14 ديسمبر الماضي في بغداد أثناء المؤتمر الصحفي الشهير . فلقد تعاطفت قطاعات عريضة من كل شرائح جماهير أمتنا العربية من المحيط إلى الخليج على اختلاف توجهاتها وميولها وأطيافها حول هذا الحدث الفريد تعاطفاً لا حدود له . فما هو سر هذا التعاطف ؟ وهذا التوافق ؟ وهذا الإجماع حول هذا الحدث ؟
انتكاسات
الحقيقة أن أمتنا العربية - ومنذ فترة طويلة - تتعرض لانتكاسات متعاقبة , وكبواتٍ مُرة , وضربات مؤلمة ؛ هذه الانتكاسات أصابت المواطن العربي في كل مكان بموجات من الإحباط القاتل . تزامن هذا الإحباط مع حالة يأس عربي كبير من مواقف قادة الأمة وحكامها الرسميين , حيث غالباً ما تخرج مواقفهم , وتصرفاتهم , وردود أفعالهم أقل بكثير من طموحات وتطلعات ورغبات وهموم الجماهير العربية التي تقارِن كل يوم بين ما هو مخزون في ذاكرتها من مواقف وبطولات وصولات وجولات لقادة الأمة التاريخيين على مر العصور, وبين هذا الواقع الأليم الذي تعيشه .
البحث عن بطل
هذا الواقع الكسيح جعل المواطن العربي في كل مكان يَجِدُّ في البحث عن بطل - أي بطل ومن أي نوع - ليجبر حالة الانكسار , ويضمد حالة الإحباط , ويداوي الهزائم النفسية التي ألمت به . ويمكن تشخيص وتلخيص أسباب هذا العَرض ولا أقول مرض - والذي اعتقد أن الأمة لم تمر بمثله منذ زمن - في عدة أمور منها : سلبية الحكام , وصمت العلماء , وبُعد المخلصين , وإبعاد الصالحين , ومحاصرة المصلحين , و تحييد المثقفين , وتغييب وعي الجماهير الغفيرة هنا وهناك عن الميدان . كل هذه العوامل - وغيرها - زادت من قتامة الصورة , و جعلت الانتظار لا أقول هو سيد الموقف فحسب , بل أصبح الانتظار هو الثقافة التي تتحلى بها كل شرائح مجتمعاتنا العربية . فالكل يعيش حالة من الانتظار ؛ انتظار لهذا " لبطل " أو لهذا المخَلص الذي سيخلصنا من حالة الإحباط هذه , و سيحقق لنا طموحاتنا , ويقودنا نحو أهدافنا , ويوقظنا من غفلتنا , وينادينا حتى ننهض من ثُباتنا ليخلصنا من هذا الواقع المشين .
حالة انتظار
وإذا كان أبطال صامويل بكيت - في روايته الشهيرة (في انتظار جودو- 1947م) Waiting for Godotte)) - ظلوا ينتظرون ( جودو ) ليغير حياتهم نحو الأفضل وليحل لهم مشاكلهم , فإن جماهير الأمة اليوم تعيش نفس حالة الانتظار هذه , تنتظر ظهور هذا البطل ليخلصهم من هذا الواقع الأليم . ولما كانت الجماهير العربية محرومة من هذا البطل الذي تتمناه , فهي تحاول أن تصنعه بطريقتها الخاصة كل يوم ألف ألف مرة , فما أن يقوم أحد بني جلدتنا بعملٍ يتناسب مع طموحات ورغبات الأمة حتى تتعلق به الآمال , وتصبوا إليه العيون , وتحاول أن تجعل من هذا " الفرد " الايجابي " البطل" المرجو .
محمد أبو تريكه
فمثلاً أثناء البطولة الأفريقية الأخيرة في غانا 2008م , وبعد الموقف الإيجابي من اللاعب الخلوق محمد أبو تريكه أثناء تعبيره عن تعاطفه مع شعب غزة المحاصر بعد تسجيله لأحد أهدافه , حاولت أن أجد تفسيراً منطقياً - لا لموقف اللاعب الايجابي والذي يستحق كل التحية والتقدير - ولكن لهذا الإعجاب الطاغي من كل شرائح الأمة بهذا الموقف الرمزي البسيط , فوجدت أن إحباط الجماهير العربية مما تقوم به الدولة الصهيونية , وإحباطهم من صمت الإدارات الرسمية في بلادنا العربية , وإحباطهم من الموقف العربي الرسمي تجاه هذا الحصار الغاشم على شعب غزة جعل الكل ينظر إلى اللاعب على أنه بطل , بطلٌ استطاع أن يقول ما يود كل واحد منهم أن يقوله , بطلٌ استطاع أن يعبر عما يجيش في صدور الملايين من أبناء الأمة , بطلٌ استطاع أن يقوم بما لم تقم به الإدارات الحاكمة الرسمية في بلادنا .
منتظر الزيدي
نفس نفس الكلام ينطبق مع ما قام به الصحفي العراقي منتظر الزيدي مع الرئيس بوش . فمشاعر الجماهير العربية المحبطة من مواقف بوش وإدارته , والمحبطة من الظلم الأسود الذي لحق بالعراق وشعبه , والمحبطة من الموقف العربي الرسمي تجاه هذا الصلف وهذا الغرور الأمريكي جعل هذه الجماهير تتوحد وتلتف حول هذا الحدث الرمزي التفافاً لا نظير له . فلقد فعل منتظر الزيدي ما يود الكثيرون فعله , وقال ما يود الكثيرون قوله , ومن هنا جاء إعجاب هذه الجماهير المحبطة وتوحدها حول هذا الحدث الرمزي أثناء رحلتها في البحث عن بطلها المرجو
محاولات يائسة
وقبل أبو تريكه , وقبل الزيدي شاهدنا محاولات عديدة من جماهير الأمة هنا وهناك للبحث عن هذا البطل , وما رفع صور عبد الناصر , وصدام حسين , وأسامة بن لادن , وأحمد ياسين , و حسن نصر الله من حين لآخر في العديد من الشوارع العربية إلا محاولات يائسة من جماهير محبطة هنا وهناك في رحلة البحث عن بطلها المرجو
العجز العربي
إن العجز العربي الرسمي بشتى صوره , مع الفراغ الذي ولدته الأنظمة الرسمية , والواقع الذي تعيشه الأمة , مع إحباطات الجماهير العربية هنا وهناك , بالتزامن مع كيد الأعداء الذي لا حدود له يجعلني أبشر ببشارة , وأٌذَكِّر بحقيقة .
بشارة
أما البشارة : فهي إن كل نهضات أمم الأرض عبر كل العصور السابقة إنما بدأت وانطلقت من قمة حالات الضعف والتردي , والتاريخ خير شاهد على ما أقول .
حقيقة
وأما الحقيقة : فهي ما لم تتحرك هذه الجماهير في سبيل تخليص نفسها بنفسها من هذا التردي فلن يخلصها أحد حتى ولو كانت نعال منتظر الزيدي أو كل قمصان محمد أبو تريكة .
تحرك أيها المارد
فهل نشهد قريباً تَحرُّكاً لهذا المارد العربي الكامن و الذي أرى أن المسرح لم يكن مهيأً لاستقباله في يوم من أيام أُمتنا مثلما هو مهيأ لاستقباله اليوم ؟ هل نسمع قريباً عن قرب موعد ولادة هذا البطل العربي الحقيقي ؟ أم سيطول انتظارنا ويطول , ويطول , و يظل الانتظار هو سيد الموقف ؟
صيد الفوائد